المنتدى

عودة


كيفية مقاربة موضوع الأمن في العالم العربي بطريقة نقدية

09/11/2017 كيفية مقاربة موضوع الأمن في العالم العربي بطريقة نقدية

تقرير حول الطاولة المستديرة بعنوان "الدراسات النقدية حول الأمن في العالم العربي" | بيروت، 10 آذار 2017

إعداد: جميل معوض

مقدمة

عقد المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، ضمن فعاليات مؤتمره الثالث الذي جاء بعنوان "الدولة والسيادة والفضاء الاجتماعي في المنطقة العربية: قراءات تاريخية ومقاربات نظرية جديدة"، طاولة مستديرة تحت عنوان "الدراسات النقدية حول الأمن في العالم العربي".

أدار الجلسة عمر ضاحي (كلية هامبشير)، وشارك فيها كورالي هنداوي (الجامعة الأميركية في بيروت)، رانية المصري (مركز الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة، الجامعة الأميركية في بيروت)، وحمزة المؤدب (معهد الجامعة الأوروبية).

استهلت الجلسة بتعريف المشاركين بمجموعة عمل "مدرسة بيروت للدراسات النقدية حول الأمن" التي تتألف من مجموعة من الباحثين يقوم بتنسيقها عمر ضاحي (كلية هامبشير) وسامر عبّود (جامعة أركاديا). ثمّ تم تعريف المشاركين بأهداف المجموعة التي تقوم على تشجيع المعالجة النقدية لموضوع الأمن في العالم العربي، من خلال طرح الأفكار، ودراسات الحالة، والأطر والمفاهيم التي من شأنها تقديم قراءة نقدية وبديلة للمقاربة المهيمنة الأوروبية والغربية للدراسات الأمنية. إلى جانب ذلك، تحاول المجموعة تقديم مقاربات بديلة لإنتاج الأمن و/أو انعدام الأمنتعتمد على دراسات حالات منبثقة من الميدان. كما تهدف المجموعة إلى دراسة مدى وكيفية مساهمة المعرفة المنتجة من المنطقة في إنتاج أطر تتحدى مقاربة الأمن القائمة على حصرية الدولة ومؤسساتها. ويتمحور موضوع بحث المجموعة حول خمسة عناوين أساسية، ألا وهي: السيادة (وما وراءها)، الحياة اليومية، المقاومة والمرونة، الاقتصاد السياسي للأمن وانعدام الأمن، وإنتاج المعرفة والخطاب.

وتخلّل الجلسة عرضًا لنضالات العدالة البيئية في المنطقة العربية من خلال "أطلس العدالة البيئية في العالم العربي"الذي يوثّق نضالات ومبادرات أشخاص يعملون على تحقيق العدالة البيئة.

تجدون في ما يلي أبرز الطرحات التي قدّمها المتحدثون في مداخلاتهم.

عمر ضاحي: الدراسات الأمنية والعالم العربي

تقليدياً، أي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما كنا نتكلّم عن الأمن كمفهوم، كان المشار له في كلمة "الأمن" هو أمن الدولة. وكانت الدراسات الأمنية تحصي وتدرس الأخطار التي يُزعم أنها تهدد الدولة. بطبيعة الحال، لم تخلُ بعض تلك الدراسات من تيارات ومدارس فكرية لها حس أو نفس نقدي إن كانت ماركسية أو نيو ماركسية. إلاّ أن ثنائية الدولة-المواطن بقيت هي المحور، أي أن مفهوم الأمن بقي عالقًا أو محصورًا بتلك العلاقة وإن توسّع بمسبباتها.      

أما الدراسات الأمنية النقدية، فهي ترفض مَركَزة النقاشات عن الأمن على علاقات الفرد-الدولة حصرًا. فغالبًا ما يعثر المواطنون/ات في المجتمعات التي تشهد نزاعاتٍ عنيفةً على الشعور بالأمان من خلال العلاقات المجتمعيّة القويّة والمتماسكة. وتنطلق الدراسات الأمنية النقدية من افتراض أن "الأمن" ليس مفهومًا جامدًا أو أزليًا، ولكنه يتغير مع مرور الوقت.

قام المهتمّون بالدراسات الأمنية النقدية بمتابعة مواضيع معيّنة، منها: التقاطع بين الجيش والشرطة، وإدارة الحدود والهجرة والجنسية، والتهديدات البيولوجية والأوبئة، والترابط بين الأمن والتنمية، وإصلاح قطاع بناء السلام والأمن، وخدمات الرصد والتخابر، والأمن البيئي، والعلوم والتقنيات العسكرية، وسرعة التعامل مع الكوارث وإدارة المخاطر، والجوانب الأمنية في الحياة اليومية.

أما في العالم العربي، فلطالما كان مفهوم "الأمن" عنصرًا أساسيًا إما في تحليل أو فهم المنطقة العربية من قبل أكاديميين أو محلّلين رسميين أو غير رسميين من جهة، وإما في تشكيل المنطقة أو التأثير عليها من قبل فاعلين خارج البلاد العربية أو داخلها من جهة أخرى. أي أن الشرق الأوسط كان محط اهتمام أمني في أدبيات دراسات العلاقات الدولية ناهيك عن مصالح الدول الكبرى.

إلّا أن فترة ما بعد هجمات 11 سبتمبر وما أعقبها من ارتفاع وتيرة وعنف التدخلات الخارجية والحروب أدّيا بدورهما إلى تزايد الأصوات الناقدة والرافضة للقوالب الجاهزة الجامدة والاستشراقية في فهم المنطقة. فعلى سبيل المثال، بات "الإسلام السياسي" أو حتى "الإسلام" بحد ذاته يعتبر خطرًا أمنيًا يهدد مصالح الولايات المتحدة. وأتت الانتفاضات العربية والأفريقية لتطيح بتلك المفاهيم البالية والعنصرية التي كانت تنظر إلى الشعوب العربية بأنها خارج التاريخ: صامتة، مطيعة، راضية بالذل. إلا أن ما أعقب موجة الانتفاضات من موجات مضادة وانقسامات وحروب أهلية، بالإضافة إلى بروز فاعلين قدامى وجدد من دول مختلفة، قد زاد من تعقيد مسألة الأمن.

تواجه المنطقة العربية حاليًا إشكاليات عدة منها انتشار العنف، والتدخلات العسكرية وتجاوزات القانون، والاحتلال العسكري، والنزوح الجماعي، وإعادة ترسيمالحدود، والتحول النيوليبرالي، وانتشار ممارسات وآليات أمنية جديدة، وبروز أشكال جديدة من الممارسات التي غالبًا ما تكون عنيفة والتي تعتمدها أجهزة أمنية غير دولاتية. وفي الوقت عينه، شهدت المنطقة خلال العقد المنصرم ظهور شكل جديد من مراكز إنتاج المعرفة من وسائل إعلام وجامعات ومراكز أبحاث تساهم في تأطير المسائل الإقليمية والأمنية بشكل موضوعي أحيانًا، وبشكل إمّا يقلّل من شأن التجارب اليومية للعديد من الناس وإما يفسّرها حصرًا من خلال الهويات والانتماءات الطائفية أو الأثنية أحيانًا أخرى.

يجب أن تستجيب الدراسات الأمنية النقدية فيهذه المرحلة إلى التحديات النابعة من الطاقات والتساؤلات النقدية والميول التحررية للانتفاضات العربية. وهي تتضمن فهم كيفية عمل القوى والمنظمات على المستوى الوطني أو المحلي على تغيير المفاهيم والعلاقات والظروف على الأرض. كما تتضمن تفسير مصادر العنف العديدة في الإقليم وفي الممارسات المرتبطة بذلك والمتعلقة بالتأقلم والمرونة المدنية. وهي تؤكد على ضرورة فهم أساس حركات التعبئة والحركات الاجتماعية، بالإضافة إلى  أثرها على المستوى الوطني والإقليمي. وهي تتضمن دراسة العمل الجماعي إن كان يصدر عن حركات اجتماعية أو نقابات عمالية أو غيرها. وعليها أن تسأل "أي نوع من الأمن هو في خطر؟" وتتوسع في مفهوم "انعدام الأمن" على نحو يتخطى الروايات المعتادة عن المعاناة أو المجرم والضحية.

لذلك، فإن المنطقة العربية تفتقر إلى تقييم نقدي أكاديمي "للخطاب الأمني" الذي ظهر على الساحة في أعقاب الانتفاضات العربية الأخيرة. ورغم وجود بعض الاستثناءات الهامة، ما زال هناك نقص واضح في المساهمات من داخل الإقليم وبشأنه في هذا المجال، مما يعني أنه لدينا فرصة هامة "لتعريب" أجندة الدراسات الأمنية النقدية، إن صح التعبير.

كورالي هنداوي: مقاربة نقدية لنزع السلاح وعقيدة مسؤولية الحماية

وقع العراق في التسعينيات تحت الحصار الدولي. وترتب عن الحصار خسائر مدمّرة اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا تكبّدها المجتمع العراقي. وبعد عقود، أطلقت سياسات عالمية تحت شعار "نزع السلاح – أي سلاح الدمار الشامل" من أجل شن هجوم آخر على العراق. 

إن السؤال الأساسي الذي يأطّر هذا البحث هو كيفية استمرار سياسات الإكراه ضد العراق، بغض النظر عن الثمن الإنساني؟ ويؤدي ذلك إلى ضرورة فهم التناقضات التي أنتجتها هذه السياسيات في العراق. فبعد العام 2004، اعتبر العديد من العاملين في نزع السلاح والسيطرة على السلاح، بأن عملية نزع السلاح في العراق، التي بدأت في منتصف التسعينيات، هي عملية ناجحة لأن يوم الاجتياح كان العراق خاليًا من السلاح. وبالتالي، أصبح العراق يعتبر دراسة حالة ونموذجًا ناجحًا عن عمليات نزع السلاح. لكن الإشكالية تقع بأن العملية لم تكن ناجحة بالضرورة لأسباب عدة. أولاً، كان الثمن الذي دفعه الشعب العراقي باهظًا على الأصعدة كافة. إذ أصبح الحصار منذ العام 1991 مرتبطًا بالتطورات بملف نزع السلاح. وهنالك علاقة مباشرة بين عملية نزع السلاح وآلاف الأشخاص الذين فقدوا حياتهم نتيجة الحصار. ثانياً، هناك إشكالية في أهداف العملية واستمراريتها. لنفترض أن برامج الحد من السلاح قد نجحت في منتصف التسعينيات. لماذا استمرت إذًا العملية خلال الحصار وبعد الغزو؟ هناك تناقض واضح في الموضوع. فإذا كانت السلطة العراقية استوفت شروط نزع السلاح، كيف نفسر الطابع العنيف لعملية نزع السلاح بعد منتصف التسعينيات؟ التفسير المحتمل، بناءً على دراسات الحالة العراقية ودراسات مقارنة أخرى منها مع ما حصل في إيران في العام 2006، يقوم على استنتاج بأن مبدأ نزع السلاح قائم أساسًا على مبدأ استخدام الإكراه واستخدام القوة الإجبارية من قبل مجلس الأمن.

وبالتالي، هناك هوّة كبيرة بين وسائل وسياسيات مسوغة باسم الأمن ومركّزة على العالم العربي والواقع على الأرض. فالبحث عن الأمن من قبل بعض الدول والمنظمات الأممية يؤدي إلى إنتاج حالات "انعدام الأمن" في المجتمعات المستهدفة. وهذا يقع في صلب اهتمامات الدراسات النقدية حول الأمن في العالم العربي.

من جهة أخرى، إن دراسة الأمن أو انعدامه لا يجب أن تتعلق حصرًا بمراكز السلطة، إنما أيضًا بالتأثيرات على الحياة اليومية. فيجب مقاربة هذا الموضوع من خلال "عقيدة مسؤولية الحماية" التي وافقت عليها معظم الدول في العام 2005. والعقيدة تقول بأنه على كل إنسان أن يكون محميًا من الجرائم التالية: الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي. وتعتبر العقيدة أن المسؤولية الأولى في ما يتعلق بحماية الإنسان من الجرائم تعود للدولة التي هي مسؤولة عن حماية الشعوب والسكان على أرضها، وبالتالي هي مسؤولة عن حمايتهم من هذه الجرائم. وهناك جزء مهم في العقيدة ينص على الاعتراف بأن بعض الدول غير قادرة أو غير راغبة بتقديم هذه الحماية، وبالتالي تعود مسؤولية تقديم الحماية إلى المجتمع الدولي. فمسؤولية الحماية تبرّر إذًا التدخل الإنساني والعسكري باسم الدفاع عن المدنيين. لكن على أرض الواقع، فإن هذه العقيدة معقًدة أكثر بكثير. وتقوم مقاربة هذه العقيدة من منظار الدراسات النقدية على إظهار الدور الكبير الذي يلعبه الناس العاديين في تطبيقها وليس الدول فقط أو المجتمع الدولي. وهنالك أمثلة كثيرة عن هؤلاء الناس، كالذين رفضوا المشاركة في القتل الجماعي في رواندا، أو الجنود الإسرائيليين الذين يرفضون الخدمة في الجيش على أساس أنهم رافضين في المشاركة في جرائم حرب، أو بعض الصحافيين الذين يعرّضون حياتهم للخطر من أجل كشف الجرائم الإنسانية. وهم بالتالي يشاركون في عقيدة مسؤولية الحماية، ولكن لا يعتبرون جزءًا من منفذيها من منظار القانون الأممي. لذلك هنالك حاجة إلى تقديم تفسير بديل أو مكمّل للعقيدة، ألا وهو الدور الذي يمكن أن يلعبه المواطن العادي في مكافحة الجريمة. فلا بد من الاعتراف بقدرة الإنسان على مكافحة الجريمة، ولا اعتباره ضحية فقط. ففي هذا الحالة يكون الإنسان فاعلًا ولديه قدرة على التصرّف حتى في أصعب الظروف.

Rania Al-Masri, Coralie Hindawi and Omar Dahi at the roundtable on Critical Security Studies in the Arab World-Third ACSS Conference

من اليمين: عمر ضاحي وكورالي هنداوي ورانية المصري خلال الطاولة المستديرة حول الدراسات النقدية حول الأمن في العالم العربي

حمزة المؤدّب: الدولة والاقتصاد السياسي للأمن والحدود

في كل أزمة يواجهها العالم العربي، يظهر خطاب حول الحدود والحاجة إلى إعادة النظر باتفاق "سايكس-بيكو" مثلاً. ويأتي هذا الهوس بالدولة وحدودها على حساب دراسة السلطة وممارستها. وتقوم الحجة الأساسية في هذا المنظار على أن ضبط الأمن مرتبط بمستويات عالية من انعدام الأمن لفئات اجتماعية معينة وفي مجالات جغرافية محددة. ففي الحالة التونسية، وبعد العام 2011، برزت خطابات حول مسألة إصلاح القطاع الأمني، وقد انطلقت من فكرة مفادها أن الأمن كان فاسدًا لأن نظام بن علي كان فاسدًا أيضًا. وبما أن إصلاح الأمن يكون بطبيعة الحال مرتبطًا مباشرة بالشفافية والإصلاح الساسي، فيؤدي الإصلاح السياسي إلى رفع مستوى الأمن في الأطر الديمقراطية الجديدة. لكن في الواقع، استنتجنا بأن الأمن ما زال "الصندوق الأسود" للانتقال الديمقراطي. فالمسألة الأمنية ليست مسألة تقنية ترتبط بمواصفات معينة في حال تطبيقها يصار على إحلال الأمن أو الرفع من مستوياته.

هذا وكان الحديث عن مسألة الأمن مرتبطًا بجغرافيا انعدام الأمن. ويبرر غياب الأمن من خلال الربط الميكانيكي بين التوتر الاجتماعي، والتحركات الاجتماعية أو العمليات الإرهابية التي تحدث في مناطق جغرافية معينة في الداخل أو في مناطق حدودية. وهنالك توجه، من هذا المنظار، يقوم على مقاربة المركز للأطراف والدواخل على أنها عقر المشكلة وأحيانًا مصدر للإرهاب وعدم الاستقرار، ومصدر للتوتر الأمني والاقتصادي. كما فُسّر تردّي الوضع الأمني على أنه امتداد للوضع الإقليمي تحديدًا في ليبيا وانعكاساته على تونس. لكن هذه المقاربات، ولو أنها صحيحة جزئياً، تشكل مقارنة غير كافية: فالمشكلة الأساسية هي الاقتصاد السياسي في تونس، وطريقة ممارسة السلطة.

في هذا السياق، ترتبط مسألة ضبط الأمن في تونس بمستويات عالية من انعدام الأمن، وقبول مستويات جريمة معيّنة والتهاون معها، وحالات عدم تطبيق القانون، والتهريب، والاقتصاد غير المهيكل. وفي حين أن هذه العوامل تظهر على أنها نتيجة ضعف الدولة، اعتمدت السلطة والحزب الحاكم على أنشطة مماثلة تقع خارج القانون كوسيلة لممارسة السلطة من خلال ابتزاز الناس واختراق شبكات التهريب. وبالتالي، قامت عملية حماية المناطق الداخلية والحدودية في تونس على مبدأ التغاضي عن تطبيق القانون. فكان هاجز الأجهزة الأمنية حفظ الأمن والضبط الاجتماعي، وليس بالضرورة السهر على تطبيق القانون. فكان جزء أساسي من عائدات الأجهزة الأمنية يأتي من "الأتوات"، أي ضريبة غير قانونية تفرضها هذه الأجهزة على بعض الأشخاص. ونجد هذا المثل في مصر أيضًا حيث تعتمد الأجهزة المصرية على البلطجية من أجل قمع العشوائيات، أو الحركات الإسلامية. وكان رجال الشرطة يعتمدون أيضًا على هؤلاء من أجل إحقاق الاستقرار ونوع معيّن من الأمن. ويحدث هذا في ظل تراجع الدور الاجتماعي للدولة وعدم توزيع الثروة، مما أدّى إلى اعتماد طرق غير مكلفة لحكم فئات اجتماعية ومجالات جغرافية معينة.

رانية المصري: الأمن البيئي والعالم العربي  

إن جزءًا أساسيًا من الدراسات الأمنية في الوقت الحالي يتعلق بالأمن البيئي. ومن هذا المنظار، يتأثر الأمن القومي بالتدهور البيئي أحيانًا بدرجة أكبر من التهديد العسكري التقليدي. وتنطلق التعريفات التقليدية التي تتعلق بالأمن البيئي من ثلاث فرضيات: تأثير المشاكل البيئية على الصراعات داخل الدولة، وتأثير المشاكل البيئية على بقاء البشر، وتأثير الحروب على التدهور البيئي. وتتركز هذه التعريفات على الدول وأمنها، أي ضرورة حماية الدولة من التهديدات التي قد يسببها الآخرون، وهم إما خارج حدود هذه الدولة وإما داخلها. وبالتالي، تقوم معادلة الخطر البيئي على ازدواجية بين السلطة التي تحمي الدولة، وبين "الآخر" الذي يهدد السلطة.

تقليدياً أيضاً، وبشكل عام، ارتبط مفهوم الأمن بتأسيس الدولة الحديثة. ويبدأ في هذه الحالة تطبيق الأمن أو إحقاقه بالرجوع إلى القوة العسكرية. وبالتالي، وفي ما يتعلق بالأمن البيئي، تصبح النظرة إلى الآخر نظرة من منظور أمني فقط. ويتبع ذلك إجراءات عدة منها مثلاً القمع، والتحكم بالنشاط السياسي. ويكمن الهدف من هذه الخطوات في بقاء الدولة. إلى جانب ذلك، هناك اعتقاد بأن التدهور البيئي في العالم حاليًا سيُنتج عنفًا بين الشعوب. ويُبنى هذا الاعتقاد على أن سكّان الجنوب، أو الفقراء، سيلجؤون إلى العنف عند نقص الموارد الطبيعية. وبالتالي، فإن سياسيات دول الشمال، أو الأغنياء، تلجأ إلى العنف في التعامل مع الآخر الفقير على أنه يشكّل خطرًا لأنه سيسبب نزوحًا جماعيًا، وسيساهم حتمًا في تهديد الدولة التي يجب في المقابل أن تحمي حدودها. وتظهر إشكالية الأمن البيئي في هذا الإطار.

في العالم العربي، وفي العام 1997، أصدرت إدارة بيل كلينتون مبادرة الأمن البيئي في الشرق الأوسط. وشارك فيها، إلى جانب الولايات المتحدة، الأردن، وإسرائيل، والسلطة الفلسطينية. وكان التركيز على تحديد مصادر التهديد وفرض حل للنزاعات وليس تحويلها. وعليه، فإن محاولات فتح حوارات بين فلسطين وإسرائيل، وهما قوتان غير متساويتين، تشكّل فعلًا عنفيًا بحد ذاته. ويقوم هذا العنف على تجاهل أو عدم إدراك ديناميكيات السيطرة بين من يحتل الأرض (إسرائيل)، ومن احتُلّت أرضه (فلسطين). وتقوم هذه المعادلة غير المتساوية بالتأكيد على نظرية الأمن الذي يضع أمن الدولة، أي إسرائيل، في الأولوية في مواجهة الآخر، أي فسلطين في هذه الحالة. ولا يشكّل هذا تطبيعًا للإرهاب فقط، لا بل تقويةً له. ويتناسب هذا المنطق تمامًا مع نظرة الولايات المتحدة للمنطقة وأمنها. فلا يمكن أن يجلس الذي احتُلّت أرضه مع من احتلّها على طاولة واحدة لمناقشة أمن المياه مثلًا. فموضوع المياه ليس منفصلًا عن العنف الذي يولّده الاحتلال. والدول غير متساوية، ولا تحكمها علاقات طبيعية.

وتنطلق النظرة النقدية للأمن البيئي من ضرورة وضع هذا الأخير في سياق التحديات التي يضعها أمام أمن البشر ولا أمن الدولة. فغياب الأمن البيئي ناتج عن عدم المساواة المتأصلة في ديناميكيات التنمية، والأنظمة الاقتصادية المبنية على استمرارية النمو، والاستهلاك الزائد، واستغلال الأرض ومواردها. بهذا المعنى يصبح تعريف غياب الأمن البيئي مرتبطًا بهشاشة البشر أمام الأثر البيئي. لذلك يجب توسيع مفهوم أمن البشر ليشمل التحرر من الاحتياج، والتحرر من الخوف، وحرية العيش بكرامة. ومن هذا المنطلق، نقوم بتحرير الأمن البيئي من علاقة الدولة بالآخر ليشمل العدالة البيئية التي تأخذ في عين الاعتبار الأفراد والمجتمعات والحيوانات غير البشرية.

من هنا، تبرز الحاجة إلى توسيع مفهوم الأمن ليشمل البيئية التي تتعلق بالأمن الوطني، وخصوصًا الأمن الإنساني. ويشمل المفهوم الأمني للبيئة من منظار نقدي عناصر عدة هي العدالة الاقتصادية (حقوق العمل في المناجم)، والعدالة الثقافية، أي الإدراك أن الناس الذين يعانون مباشرة من الخطر البيئي هم أيضًا خبراء في تقديم الحلول، وليس فقط من هم من حاملي الشهادات العليا، والعدالة السياسية، أي المشاركة في عمليات اتخاذ القرار، والعدالة في النظام البيئي، أي احترام الحيوانات غير البشرية والأنظمة البيئية التي تعتمد عليها.

-------------------------------

جميل معوض زميل سابق في برنامج زمالات ما بعد الدكتوراه التابع للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية وباحث منسق لمشروع الدراسات النقدية للأمن في العالم العربي الذي أطلقه المجلس. هو حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية. وله أبحاث ومقالات مختلفة حول السياسة في الشرق الأوسط، والدولة وعلاقتها بالمجتمع، والحوكمة في مجلات وكتب عديدة منها "مجلة الدراسات العربية" و"جدلية" وموقع openDemocracy. يتابع حاليًا زمالة في إطار برنامج ماكس ويبر للزمالات في معهد الجامعة الأوروبية. 

ملاحظة: يقوم المجلس العربي للعلوم الاجتماعية بتمويل مشروع "مدرسة بيروت للدراسات النقدية حول الأمن" في إطار برنامج المنح المخصص لمجموعات العمل.  

ترك تعليق

إذا كنتم ترغبون في الانتساب إلى المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، يمكنكم مراجعة صفحة العضوية للاطلاع على أنواع العضوية وكيفية تقديم طلب الانتساب.